(الفصل الثالث)
ما أطهر هذه القلوب؛ وما أنقى سريرتها !! هكذا ردد "عباس" وقد أيقظه دوي الشعارات من أحلامه الرمادية ؛ وأعاده الى الواقع المرير والجميل بذات الوقت. هذا هو اليوم الذي كان ينتظره منذ زمن بعيد؛ اليوم الذي توحد به كلمة أبناء قريته بكلمة واحدة هي "الحق" ؛ اليوم الذي تذوب به الأحقاد والآثام ذوبا .. نعم؛ هذا هو الطريق الصائب الهادف؛ وليس كمثله طريق!!
أسرع "عباس" في ارتداء ملابسه المرتبة التي لا يستخدمها الا خلال العمليات وأثناء وجوده بالجامعة ؛ وارتدى غترته ولثم وجهه قبل أن يغادر منزله بعجلة بهدف الانظمام للمسيرة السلمية التي أقامتها قريته الصغيرة _ رجالا ونساء" _ قبل أن تبتعد ويتعذر عليه اللحاق بها . وأخيرا؛ استطاع الانظمام اليها وراح يردد هتافاتها الحماسية بمنتهى التأثر. ولكن؛ ولسوء حظه ؛ فقد أسرعت الدوريات بالقدوم _بسبب الوشاية_ وبدأت بتفريق المتظاهرين برمي الرصاصات الطائشة والغاز المسيل للدموع بمنتهى الوحشية والقذارة. تفرقت المسيرة ؛ وعمت الضجة بالمكان ؛ وبقي بعض الشباب المتلثمين يهيلون على سيارات الجيب الحجارة بمنتهى الشجاعة والاقدام ؛ بما فيهم "عباس" الذي لم ينتشله شيْ من غمرة حماسه سوى صرخة مألوفة لديه ؛ استدار على أثرها ليجد يد من تلك الأيدي القذرة وهي تجر ابنة خاله الكبرى "منال" عنوة لداخل الجيب.. لم يفكر بشيْ؛ لم يفكر بعواقب ما قد يفعله ؛ وعندما اندفع باتجاهها ؛ لم يفكر حتى ان كان سينجو هذه المرة أيظا أم ان الله لن يقدر له النجاة. كل ما كان يفكر فيه هو "منال" ؛ ابنة خاله الذي أطعمه ورباه وأحاطه بحبه وحنانه ؛ "منال" التي صرخت بكل قوتها انها لا تستطيع العيش من دونه قبيل رحيلها . ولم يعي لنفسه الا وهو يصرخ باسمها بقوة ؛ وكل ما يتذكره انه انهال على الجندي الأجنبي رميا بالحجارة حتى استطاع صرفه عن "منال" التي أخذت تركض باتجاهه كالمذعورة وقد انهمرت دموع عزيزة من عينيها ؛ دموع أشبه بتلك الدموع الطفولية التي ذرفتها خوفا من ألم الفراق. وبدون ادراك ؛ صرخ فيها غاضبا ( لماذا لم تهربي مع الباقين ؟؟!!) ولم يتيح لها فرصة الرد ؛ فقد جرها من يدها بهدف الهرب من الجندي الذي بدأ بملاحقتهما ؛ أما هي فلم تستطع الا طاعته ؛ فقد بدت في حالة نفسية سيئة للغاية ؛ وما لبثت ان أجهشت بالبكاء !! واصلا الجري حتى استقر أمرهما عند حائط منعزل لأحدى البيوت القديمة .. استجمعت "منال" قواها وواصلت بكاءها المرير ؛ وصرخت على حين غرة
(لقد قتل "ياسر" ؛ لقد قتله.. أتعرف الآن لم لم أهرب ؟؟) صرخ بدوره بانفعال من هول الصدمة ( "ياسر" !! ابن خالتك ؟؟ هل أنت متأكدة من انه مات ؟!!) ودون أن تسأله أي سؤال أجابت وقد بدى كل شبر من جسدها يرتجف ( نعم.. متأكدة... لقد أتت الرصاصة في قلبه مباشرة ومات على الفور.. ما ان رأيته وعرفت من فعل به هذا حتى جن جنوني ؛ ورحت أهيل ذلك الوغد ضربا وصفعا ,,,, ) وعادت للبكاء باندفاع وقوة واضعة يديها فوق وجهها المتألم ؛ وبدى ل "عباس" انها الآن ولا شك تستعيد منظر "ياسر" وهو مخضبا بالدماء . انحدرت الدموع من عينيه دون أدنى مقاومة ؛ وراح يضرب الحائط بكفه بحنق صائحا ( الأوغاد؛ الأنذال ؛ قساة القلوب..) ولم تزد صرخاته "منال" الا بكاءا؛ هتفت في خضم نحيبها ( آه يا خالتي !!
ما أعظم مصيبتك وما أفضع بلاءك !! صبرا يا "عبدالله " فان النصر قريب..) وسادت هنيئة من السكون ؛ انتبه بعدها "عباس" لنفسه ؛ فانكس رأسه في خجل وهم مبتعدا ؛ ولكن صوتها استوقفه ( عبدالله !! ) استدار اليها ولم ينبس ؛ فراحت تسأله بهدوء (أعلم ان الوقت غير ملائم لطرح الأسئلة ؛ ولكننا قد لا نتقابل ثانية ؛ لقد ناديتني باسمي منذ قليل ؛ وشاركتني فجيعتي على ابن خالتي الشهيد ؛ فمن أين لك أن تعرف من أكون والى من أنتمي ؟! ) تسمر "عباس" في مكانه ؛ لم يكن مستعدا للتصديق بأن فضول ابنة خاله أكبر من أي حادث أو مصيبة بالعالم !!! هتف بشيْ من الهدوء الزائف بمنتهى البساطة التي لم تكن تتوقعها ( قريتنا صغيرة كما تعلمين !!) وعاد الى منزله والحزن يخيم فوق صدره كالكفن ..
أحدث استشهاد "ياسر" جرحا لا يندمل بقلب أهل القرية ؛ فمقتل صبي لا يتجاوز الثامنة عشر ربيعا جريمة شنعاء تقشعر لها الأبدان وتتمزق لأجلها نياط القلوب . كانت "أم محمد" _ وبرغم حالتها النفسية المتعبة _ لا تفارق أختها _ أم الشهيد _ دقيقة واحدة ؛ بينما كانت "منال" تتولى شؤون المنزل واعداد الطعام بأيام الحداد التي طالت كثيرا ؛ وفي احدى هذه الأيام الكئيبة ؛ وفي جو الروحانية والسكون ؛ تفاجىْ "عباس" بما قد أذهله ما ان عاد الى منزله _ بعد ان ختم القسم الرجالي القراءة على روح الشهيد_ فما ان دخل الى غرفته حتى وجد ورقة غريبة معلقة على خزانة ملابسه . انتشلها وقد ارتجفت أوصاله بشيْ من الحدس المفاجىْ ؛ وسارع في قراءة هذه الكلمات المكتوبة بخط مرتب برغم عدم خلوها من الركاكة والأخطاء الاملائية ,,, (بسم الله؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد : أخي الغالي "عباس" ؛ لقد أتيت لمنزلك ولم أجدك ؛ ولا أنكر انني شعرت بشيْ من الارتياح لهذا ؛ لأنني كنت متوترا للغاية وأنا أتخيل طريقة استقبالك لي بعد كل تلك الأعوام التي مرت دون أن نقابل بعضنا . لك أن تعرف يا "عباس" انني أعلم بمقدار غضبك مني ومن ما فعلته ؛ ولكنني أعلم أيظا ان قلبك الكريم قادر على الصفح و المسامحة .. لن تصدق هذا ؛ ولكنني رأيت والدتنا بالمنام وقد أكدت لي انها لن تسامحني لا اذا أنت سامحتني أولا . وها أنذا أخط لك هذه الرسالة راجيا منك أن تنسى الماضي وتغفر لي نزواتي السابقة ؛ وان كنت لن تفعل هذا لأجلي ؛ فافعله لأجل ابن أخيك وزوجته.. لا ؛ لا تفهم خطئا !! زوجته العربية المتدينة التي كان لها الفضل الأكبر بهدايته بعد الله .. لن أطيل عليك ؛ لأنني سأحظر مجددا _ ان كنت ترغب_ وها أنذا أترك اليك عنواني ؛ فان سامحتني وغفرت لي ؛ ابعث في طلبي وسآتيك بسرعة البرق . أستودعك الله. (ملاحظة : ذهبت لبيت خالي وسلمت عليهم جميعا _ "منال" كبرت كثيرا _ !! أخوك المخلص "جاسم" ) وكان عنوانه فعلا مدونا على ظهر الورقة !!!!
طرح "عباس" بجثته على السرير وقد هالته المفاجئة التي لم تكن بالحسبان ؛ لقد تزوج "جاسم" من مسلمة وله ولدا الآن ؛ وهاهو ذا يطلب السماح والغفران على ما فعله بالماضي !! بدى "عباس" وكأنه بحلم لا يرغب بالاستيقاظ منه . أخيرا ؛ أخيرا تحققت أمنيته وأمنية والدته التي لم يكن من نصيبها أن تشهد هذه اللحظة الرائعة ولللأسف الشديد ... ابتسم "عباس" بخجل وهو يعيد قراءة الفقرة الأخيرة من الرسالة ؛ كل شيْ قد يتغير ب "جاسم" الا تلميحاته بعلاقتهما هو و "منال" . اذن لقد رآها ؛ وربما كلمها .. راودت "عباس" المخاوف والضنون التي انتشلته من سعادته بلا رحمة ؛ ربما "منال" الآن عرفت كل شيْ ؛ عرفت ان "جاسم" ليس هو من قابلته في الجامعة وبالتالي لابد أن يكون هو من قابلت !! توجس توجسا شديدا ولم يستطع الانتظار حتى حلول وقت الغداء ؛ يجب أن يذهب اليها الآن ليرى ان كانت ضنونه في محله أو لا.... سارع الى منزل خاله الكئيب بهذه الأيام الصعبة ؛ ولكنه تفاجىْ بصوت "حسين" من خلفه ؛ وما لبث ان انظم اليه قائلا وقد علت وجهه ابتسامة عريضة ( الى أين ؟) حدجه "عباس" بنظرة لائمة لنظرته الخبيثة وصاح فيه بارتباك ( لابد ان "منال" عرفت كل شيْ الآن ,,) تطلع "حسين" اليه بقلق شديد مدركا ما يعني بكلمة "كل شيْ " وسارع بالاستفسار ( ماذا جرى ؟؟ قل فقد وقع قلبي !!) نطق "عباس" بعد تنهيدة قوية ( لقد أوهمت "منال" بالجامعة انني "جاسم" ؛ ولم تضع بحسبانك ان "جاسم" قد يعود
فيكشف الحقيقة ..) صرخ "حسين" بعدم تصديق (يعود؟؟ وهل عاد "جاسم" حقا ؟؟) رد "عباس" بسعادة لا تخلو من بؤس ( نعم ؛ لقد أتى ولم يجدني ؛ وترك لي رسالة يطلب فيها العفو ؛ والأدهى من كل ذلك ؛ انه قابل "منال" ) تمتم "حسين" وقد وقف بمقابلة رفيقه بعد ان وصلا لمنزل خاله قائلا كمن يهذي ( انه لأمر لا يصدق !! المهم ؛ تفائل خيرا ؛ ربما لم تسأله عن تلك المقابلة ) استعد "عباس" للدخول متمتما كمن يهوى تعذيب نفسه ( وربما سألته !!) .............................
وما ان دخل حتى ركضت اليه "زينب" و عانقته بقوة صائحة بفرحة طفولية ( "عباس" ؛ "عباس" ؛ "منال" ها قد أتى "عباس" !!) أجابها صوت أختها الكبرى من المطبخ قائلة بلهجتها الساخرة المعتادة ( أهلا وسهلا !! يبدو انك جائع جدا لتأتي مبكرا هكذا ؟!) تنهد "عباس" مطمئنا وقاد "زينب" باتجاه المائدة صائحا بحمق ( جدااا جدااااااااااا ... فقد صنعت اليوم خزانة ملابس كبيرة ؛ كبيرة جدااا !!) هتفت "منال" بصوت شبه عال ليسمعها ( بحجم كذبتك الكبيرة ؛ أليس كذلك ؟؟) تسمر "عباس" بمقعده ؛ ووقعت كلماتها في قلبه بشكل مؤلم . اذن ؛ لقد عرفت الحقيقة وتحطمت شخصيته في نظرها تحطيما ؛ لم يعد سوى كاذب مخادع في نظرها أحاطها بسياج من التلفيق والكذب والمراوغة ؛ ما أفضع هذا !!! قاطعه صوتها من أفكاره البائسة قائلة وهي تضع صحن مليْ بالأرز والدجاج بمقابلته وهي تبتسم بشيْ من تأنيب الضمير ( لا تغضب يا "عباس" ! أنت سريع التأثر !! ألم تقل بأنك صنعت خزانة ملابس خلال يوم واحد فقط؟ أيعقل
هذا ؟؟!!) أدرك "عباس" بأن ضنونه قد ابتعدت به كثيرا واستدرك مجيبا اياها وقد رسم على وجهه ملامح الطفل حين تكذّبه أمه ( لقد كنت أقصد انني أكملتها اليوم ؛ ثم ان "حسين" قد ساعدني في صناعتها ) تطلعت اليه بنظرة غريبة وهي تقول مهدئة وقد كانت في طريقها لمناداة والدها الذي كان في اجازة احتراما لأيام الحداد ( حسنا ؛ حسنا ؛ أنا جد آسفة ؛ لم أقصد بأنك كاذب !) وطرقت باب الغرفة الخاصة بوالديها منادية ( أبي.. لقد جهز الغداء و"عباس" قد حظر ) أسرع "أبامحمد" بالخروج الى الصالة ما ان سمع بتواجد ابن أخته الأكبر مرددا ( ها قد أتيت؛ ها قد أتيت) وما لبثو ان تجمعوا على المائدة وبدأوا بتناول الطعام . وما ان انتهوا حتى بادر خاله بالحديث بعد ان غسل يديه وضمه بجواره على الأريكة كالمعتاد ( بنيّ ؛ لقد أتى أخاك "جاسم" بالأمس لزيارتنا ..) كشّر "عباس" في وجل فهمه خاله بطريقة مغايرة فأسرع في القول ( أعرف انك غاضب منه كثيرا ؛ ولكن لو تراه كيف تغير؛ لسامحته على الفور؛ لقد...) قاطعه "عباس" بلهجته الحمقاء ذاتها ( أعلم ؛ تزوج؛ وأنجب ابنا من عربية مسلمة ؛ لقد ترك لي رسالة على خزانة ملابسي وطلب مني مسامحته يا خالي ) سأله خاله بلطف لا يخلو من تعجب ( وما هو رأيك يا بنيّ ؟؟) أسرع "عباس" في الرد ببله ولكن بسعادة حقيقية وهو يضم خاله الى صدره ( انني أسامحه بالطبع يا خالي!! أولا لأنه جعلني عما ؛ وثانيا أنك علمتني أن نسامح المخطئين عسى أن يسامحنا الله ..)
ربت خاله على ظهره في فخر وسعادة غامرة وقد انهمرت دموع نادرة من عينيه العسلية ( هذا هو "عباس" الذي أعرفه ؛ انني فخور بك حقا ) صفقت "زينب" بيديها الصغيرتين تعبيرا عن فرحتها الكبيرة ؛ بينما تطلعت "منال" ل "عباس" بنظرة منكسرة دامعة لا تخلو من الغموض.
خرج "عباس" من منزل خاله متوجها الى الورشة مباشرة ؛ حيث التقى ب "حسين" مجددا هناك ؛ ودون أن يفتح الأخير فمه ؛ أجاب "عباس " على نظراته المتلهفة قائلا وقد احتل كرسيّ خشبيّ كان قد صنعه بنفسه ( اطمئن ؛ لم تعلم بشيْ !) تنهد "حسين" في راحة ؛ بينما تنهد "عباس" في قلق وقال وهو يستعيد ذكرى نظراتها الغريبة ( ولكنها ستعلم بيوم من الأيام .. ) حاول "حسين" تهدئته بلهجة حنونة هادئة ( المهم أن لا تعلم بهذه الأيام بالذات؛ وبعدها ان فرجها الله وانتصرنا ؛ أخبرها أنت ؛ وبالطريقة التي تريد ) غيّر "عباس" الموضوع ؛ وأخذ يقص الأحداث التي جرت بينه وبين عمه ؛ ففقه "حسين" لمقصده ورام بالصمت احتراما لرغبته .
وما ان عاد من صلاة الجماعة بالمسجد ؛ حتى راح يخط رسالته لأخيه ؛ والتي يدعوه فيها لزيارته بأقرب وقت ؛ وأعلن فيها مسامحته له على ما فعله في الماضي ؛ وشوقه لرؤية أخيه وابنه وشكر زوجته على جهدها بتغيره ؛ وختم رسالته بقوله ( أيها المشاكس ؛ لن تتغير أبدا !!!) ووضعها بعد دقائق بصندوق البريد الخاص بالقرية ؛ وعاد أدراجه وقد شغل نفسه بحمد الله على نعمته الكبيرة هذه .
وفي مساء قريب ؛ قابل "عباس" أصدقاء دربه في مكانهم المعروف بعد استدعاءه بصورة عاجلة . وبدأ "عبدالله" في الكلام وقد قرب قدح الشاي منه مخاطبا اياهم بصورة جماعية ( قد تتفاجئون بما سأقوله لكم ؛ فأنا نفسي لم أصدق ما قيل لي !! المهم ؛ لن أطيل عليكم .. لقد عرض علينا عرض مغري بالمساعدة المادية والمعنوية مقابل الاتحاد معنا والمشاركة بوضع خططنا وتطوير تحركاتنا ؛ طبعا الرأي يعود اليكم ) وما ان صمت "عبدالله" حتى تعالت التعليقات والمشاورات ؛ واستفسر "يوسف" قائلا ( هل لنا أن نعرف من تكون هذه الجماعة ؟؟) ابتسم "عبدالله" ابتسامة جانبية غريبة قبل أن يقول متفرسا في الوجوه المقابلة له ( جماعة نسائية !!!) عمت الضجة بالمكان؛ وتعالت الأصوات ( نسائية ؟؟؟) هدأهم "عباس" ( هدوء من فضلكم !! أؤكد لكم انني أنا نفسي قد قابلت احدى هذه الجماعات . النساء لهن الحق مثلنا تماما بالجهاد ؛ هذا ليس بغريب ؛ المهم أن نتخذ قرارا سريعا بشأن هذا العرض ) بدى الاحتجاج واضحا عبر نظراتهم المستنكرة ؛ فسارع "عبدالله" في شرح الموقف مبديا رأيه ( لا تتسرعوا لكونهن نساء ؛ لقد تعرفت على بعض خططهم الجهادية فتملكني الذهول لعمق الذكاء الذي لمسته فيهن ) تابع "عباس" بتأييد وحماس قائلا ( أنا لا أتكلم عن نفسي ؛ ولكنكم تعرفون ان لكل منا مشاغله وموارده المحدودة ؛ نحن بحاجة حقا الى مساعدة ؛ والزمن الجاهلي الذي توأد فيه البنت ما ان تولد قد ولى الآن ؛ والفضل يعود طبعا لديننا الاسلامي الحنيف الذي يساوي بين الذكر والأنثى ؛ ويحترم حقوق كل منهما ؛ ألستم معي ؟؟) تعالت الأصوات هنا وهناك :
(بلى ) ... ( معك حق يا "عباس" ! )....( نحن موافقون !! ) وبعد قرارات واحتياطات كثيرة ؛ أجمع الكل على الاستعداد لخوض هذه التجربة الفريدة ؛ وتوكلو على الله ؛ وتحولت جلستهم بعد لحظات لجلسة ودية تبادلوا فيها أخبار القرية وتطورات الوضع الاجتماعي؛ وكذلك تطورات حياتهم الشخصية وأخبار الدراسة ؛ حتى قاطعهم فجأة صوت قرع الباب ؛ فتسمروا في مكانهم ؛ وتطلعوا ل "عبدالله"
في وجل ونظرات تقول ( أنقذنا !!!) هدأهم "عبدالله" بحركة من يده ؛ وأمرهم بالتزام الصمت ؛ ومن ثم أجاب الطارق بنبرة هادئة ( من بالباب ؟) أجابه صوت نسائي قائلا بشيْ من الخبث ( أنا ؛ افتح لا تخف !!) تعجب الكل حين قام "عبدالله" بفتح الباب ما ان سمع صوت الزائرة وبهذه السهولة ؟؟ ألقت السلام ؛ فرد الجميع بصوت خجل ؛ بعدها ناولت "عبدالله" صينية مليئة بأكواب من العصير هامسة في لطف ( بمناسبة التوحد !!!) وانصرفت ونظرات الاستفسار تشير ل "عبدالله" في الحاح ... أقفل الباب من ورائها وقد غالبه الضحك ؛ وناول كل رجل كوبه وقد هم بتعريف الزائرة اللطيفة ( انها أختي "زهراء" ؛ قائدة زميلاتنا !! عذرا ؛ انها جريئة بعض الشيْ !!)
ضحكوا جميعا بقوة على ما فعلت ؛ وعلق "حسين" وهو يحاول السيطرة على نفسه ( بعض الشيْ ؟؟؟ لقد كانت تتنصت علينا من وراء الباب !!!) ازدادت ضحكاتهم قوة لتعليق "حسين" بما فيهم "عبدالله " ؛ ومن ثم تابع "يوسف" مكملا التعليق على تصرفها ( والأدهى والأمر انها جهّزت العصير مسبقا ؛ وكأنها واثقة بأن النتيجة ستكون في صالحها !!!) صرخ "لؤي" وقد أتعبه الضحك ممسكا بموقع قلبه ( كفى ؛ كفى ؛ سأموت !!) أيده "عباس" ( نعم أرجوكم ؛ سنهلك ضحكا !!!)........
وبعد دقائق ؛ انصرف كل الى شأنه ؛ وعاد "عباس" أدراجه وقد طارت به الأحلام بعيدا .. بعيدا جدا.. الى اليوم الذي يتحقق به النصر الكامل ؛ ويعود فيه جميع الأسارى والمبعدين ؛ وهتف "عباس" بأمل : ( ألا ان النصر لقريب !!).....
استيقظ في اليوم التالي بنشاط ليذهب الى جامعته ؛ استحم ونظف أسنانه كالمعتاد وأسرع في تصفيف شعره مغادرا حيث منزل صديق دربه "حسين" الذي أسرع بالخروج ما ان سمع بوق سيارته وقد امتلىْ فمه بالطعام ؛ فما كانت والدته لتتركه يخرج البتة الا اذا تناول ولو شيئا بسيطا . تذكر عندها والدته التي لم ينسها بلحظة من اللحظات وهي تقول اليه مشجعة بصوتها الحنون ( نعم؛ هكذا يا بنيّ ؛ كل لتقوى عظامك ) تنهد بعمق ؛ ولم ينتبه لصديقه الذي قبع بجواره بعد ان ألقى السلام ؛ فصاح فيه متعجبا ( هييييه !! نحن هنا !!!) تطلع اليه بنظرة جانبية وقد فهم انه يضن الآن انه كان يفكر ب "منال" ؛ فشغل المحرك وهو يقول ليدحض ضنونه ( تذكرت أمي !!) انطفأت الابتسامة من فم "حسين" عندما سمع ما قاله صديقه الحميم ؛ وأسرع في تغير الجو مازحا ومشجعا بذات الوقت
(غدا تكون عندك من تعتبرها أمك وأختك وزوجتك..) ابتسم "عباس" ساخرا ( من؟ "منال" ؟؟ لا أشك لدقيقة بأنها ستكرهني كل الكره حين تعلم بكل شيْ ؛ وستصرخ في وجهي بكل قوتها انها لن تتزوج مراوغ كاذب مثلي !!) عارضه "حسين" بمنتهى الحماس
( لا تقل هذا يا "عباس" !! أنت راوغتها لتحمي نفسك ؛ لقد حاصرتك الشكوك أكثر من مرة وكدت تسجن والله يعلم الى متى ان وجدوا ما يدينونك به ؛ مع انهم لا يعترفون حتى بالأدلة !! كن عاقلا ؛ أؤكد لك ان "منال" ستكون متفهمة ؛ خاصة بعد ان تعلم بأن "عبدالله" الفتى الشجاع الذي أنقذها أكثر من مرة هو ذاته "عباس" صديق طفولتها .. سترى ؛ ستكون بقمة السعادة . اووووه !!
أترى ؟! أنا مضطر لاخبارك بالمفاجئة التي أعددتها لك حتى لا تكّشر هكذا في وجهي منذ الصباح !!) استعجله "عباس" بفضول ذكّره بفضول ابنة خاله ( ماذا هناك ؟! قل بسرعة !!) ضحك "حسين" بقوة وقال معلقا ( هل أصبت بعدوى الفضول ؟! حسنا.. "منال" أضحت احدى زميلاتنا بالمجموعة النسائية !!!) أوقف "عباس" السيارة بشكل مفاجىْ صرخ "حسين" على أثره صرخة مندهشة وهو يرتطم بظهر مقعده ؛ وصاح بعدها غاضبا وهو يغادر السيارة على الفور متوجها لكليته التي _ لحسن حظه _ كانا قريبين منها نوعا ما ( لقد أثر الحب على عقلك يا رجل ! لن أركب معك ثانية أيها المجنون ! أفضل استقلال الحافلة !! ) أسرع "عباس" في اللحاق به ؛ وشده من يده معتذرا وهو يحاول السيطرة على ضحكه القوي ( آسف ؛ لقد فاجئتني ..) ابتسم "حسين" بسمة المنتصر ؛ فأدرك "عباس" ان غضبه لم يكن الا زائفا ؛ فراح يضربه مازحا لعدة مرات ( أيها المخادع ! سأوسعك ضربا !!)
تدّخل صوت غريب فجأة في جوهما المازح قائلا بلهجة معاتبة ( ليس بأكثر منك خداعا" !!) استدارا هما الاثنان للخلف في عجب ؛ فأبصرا صديقهما "أسامة" الذي ما لبث ان انظم اليهما متابعا حديثه الموجه ل "عباس" ( لقد وعدتني بزيارتي يا رجل ؛ هل تذكر أم انك نسيت ؟؟) أجابه "عباس" بلهجة لطيفة معتذرة تبين مكانته في قلبه وهو يضمه بذراع و "حسين" بالذراع الأخرى ( أنا جد آسف يا "أسامة" ؛ تعرف مشاغل الحياة ؛ ولكنني بالطبع سأتفرغ عما قريب ؛ أعدك ) ابتسم "أسامة" بسعادة قبل أن يقول بمنتهى الاصرار قاصدا كليهما ( ستعدني حتما بالقدوم أنت و "حسين" وباقي الشلة عما قريب ؛ فقد أعددت لكم وليمة لا بأس بها بمناسبة عودتي سالما اليكم ) ضحكا "عباس" و "حسين" بقوة على كلمة "وليمة" ومن ثم قال "حسين" مؤكدا في لطف وحب كبير
( بالطبع سنحظر ؛ فأنت تعرف معزتك لدينا جيدا.. سأخبر الباقين وسنحدد موعدا مناسبا لكل منا ؛ وبعدها سننبأك بما يجد ) شكرهم "أسامة" وهو يسرع مبتعدا باتجاه قاعته ( شكرا لكما ؛ في أمان الله ) .. (في أمان الله )
ودخلا بعدها القاعة التي اكتضت بوجوه جديدة _ فتيات وصبية _ والتي ستكون القاعة المخصصة لمحاظرة الدكتور "ميثم" من اليوم وصاعدا . احتل "عباس" مقعده بجوار رفيقه منتظرا دخول الدكتور ؛ والتي كانت هذه المحاظرة أولى محاظراته ؛ متفرسا في الوجوه الصبيانية المجاورة بعين متفحصة ؛ فمنهم من يحدق في احدى الفتيات ؛ ومنهم من يعدّل من هندامه الأنيق وقصته العصرية لألا يصيبها أدنى خلل يشوه مديلها ! ومنهم من جهّز كشكوله لاستقبال فيض من المعلومات المهمة دون أدنى اهتمام بمن حوله !!
أيقضه "حسين" من تأملاته صارخا فيه بصوت منخفض خشية أن يسمعه أحد وقد أمسك بيد رفيقه مثبتا اياه بمقعده خوفا من أن تصدر عنه أدنى حركة تؤدي الى احراجه ( "عباس" ؛ انظر لجهة اليمين ! أليست هذه "زهراء" أخت "عبدالله" ؟؟) استدار "عباس" وتطلع ببرود الى الفتاة المعنية قبل أن يعود برأسه مؤكدا بعدم اكتراث ( بلى ؛ أضن ذلك ) أسرع "حسين" بالقول باصرار
( بل انها هي حتما !!) نهره "عباس" بعنف ( كف عن التطلع الى الفتيات ! ما بك ؟؟ لست هكذا أبدا !!) أنزل "حسين" رأسه في خجل لتصرفه هذا ؛ ولاذ بالصمت _ كما فعل جميع من بالقاعة _ بعد حظور الدكتور الذي كانت محاظرته مفيدة للغاية . وبعد خروجهما ؛ همس "حسين" ل "عباس" غامزا اياه بكتفه ليجذب انتباهه لما سيقول ( انظر الفتاة القادمة للقاء "زهراء" !!)
أنبه "عباس" بنفاد صبر وبنبرة مندهشة ( ما بك ؟؟ ما لنا ومال "زهر..." ) ولم يكمل عندما لمحت عيناه الفتاة القادمة التي
لم تكن سوى ابنة خاله "منال" !!!!!!!!!!!!!
( نهاية الفصل الثالث)
ياله ابغى لردود علشان اكمل باقي اروايه